الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تدريب الرَّاوي في شَرْح تَقْريب النَّواوى ***
الثَّانية من مسائل الصحيح: أوَّل مصنَّف في الصحيح المُجَرد «صحيح» الإمام محمَّد بن إسماعيل البُخَاري والسَّبب في ذلك ما رواه عنه إبراهيم بن مَعْقل النَّسفي قال: كُنَّا عند إسْحَاق بن راهويه، فقال: لو جمعتم كِتابًا مُختصرًا لصحيح سُنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال: فوقعَ ذلك في قلبي، فأخذت في جمع «الجامع الصَّحيح». وعنه أيضًا قال: رأيتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وكَأنَّني واقفٌ بين يديه، وبيدي مروحة أذب عنهُ، فسألتُ بعض المُعبِّرين فقال لي: أنت تذب عنه الكذب، فهو الَّذي حَمَلني على إخراج «الجامع الصَّحيح» قال: وألَّفته في بضع عشرة سنة. وقد كانت الكُتب قبلهُ مجموعة مَمْزوجًا فيها الصَّحيح بغيره، وكانت الآثار في عَصْر الصَّحابة وكِبَار التابعين غير مُدونة، ولا مُرتبة، لسيلان أذهانهم، وسعة حفظهم، ولأنَّهم كانُوا نُهوا أولاً عن كِتَابتها، كما ثبت في «صحيح» مسلم، خشية اختلاطها بالقُرآن، ولأنَّ أكثرهُم كان لا يُحسن الكِتَابة، فلمَّا انتشر العُلماء في الأمْصَار، وكَثُر الابتداع من الخوارج والرَّوافض، دُونت ممزُوجة بأقوال الصَّحابة وفَتَاوى التَّابعين وغيرهم. فأوَّل من جمعَ ذلكَ ابن جُريج بمكَّة، وابن إسْحَاق أو مالك بالمدينة، والرَّبيع بن صُبيح أو سعيد بن أبي عَرُوبة، أو حمَّاد بن سلمة بالبصرة، وسُفيان الثَّوري بالكوفة، والأوزاعي بالشَّام، وهُشَيم بواسط، ومَعْمر باليمن، وجرير بن عبد الحميد بالرَّي، وابن المُبارك بخُراسان. قال العِرَاقيُّ وابن حجر: وكان هؤلاء في عصرٍ واحد، فلا يُدرى أيهم أسْبَق. وقد صنَّف ابن أبي ذئب بالمَدِينة موطأ أكبر من «موطأ» مالك، حتَّى قيل لمَالك: ما الفَائدة في تصنيفك؟ قال: ما كانَ لله بقى. قال شيخ الإسلام: وهذا بالنِّسبة إلى الجمع بالأبواب، أمَّا جمع الحديث إلى مثله في باب واحد، فقد سبقَ إليه الشَّعبي، فإنَّه رُوي عنهُ أنَّه قال: هذا باب من الطلاق جسيم، وساق فيه أحاديث، ثمَّ تلا المذكورين كثير من أهل عَصْرهم إلى أن رأى بعض الأئمة أن تُفرد أحاديث النَّبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وذلكَ على رأس المئتين، فصنَّف عُبيد الله بن مُوسى العبسي الكوفي مُسندًا، وصنَّف مُسَدَّد البَصْري مُسندًا وصنَّف أسد بن مُوسى الأموي مُسندًا، وصنَّف نُعيم بن حمَّاد الخُزَاعي المِصْري مُسْندًا، ثُمَّ اقتفى الأئمة آثارهم، فقلَّ إمام من الحُفَّاظ إلاَّ وصنَّف حديثهُ على المَسَانيد، كأحمد بن حنبل وإسْحاق بن راهويه، وعثمان بن أبي شيبة، وغيرهم. قلتُ: وهؤلاء المذكُورون في أوَّل من جمع كلهم في أثناء المئة الثانية، وأمَّا ابتداء تدوين الحديث، فإنَّه وقعَ على رأس المئة في خلافة عُمر بن عبد العزيز بأمره، ففي «صحيح» البُخَاري في أبواب العِلْم: وكتب عُمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كانَ من حديث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبهُ، فإنِّي خفتُ دُروس العلم، وذهاب العُلماء. وأخرجه أبو نُعيم في «تاريخ أصْبهان» بلفظ: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: انظروا حديث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعُوه. قال في «فتح الباري»: يُسْتفاد من هذا ابتداء تدوين الحديث النَّبوي، ثمَّ أفاد أنَّ أوَّل من دوَّنهُ بأمر عمر بن عبد العزيز ابن شهاب الزُّهْري.
تنبيه: قول المُصنف: المجرد، زيادة على ابن الصَّلاح، احترز بها عمَّا اعْتُرض عليه به من أنَّ مالكًا أوَّل من صنَّف الصَّحيح، وتلاه أحمد بن حنبل، وتلاه الدَّارمي. قال العِرَاقيُّ: والجواب: أنَّ مالكًا لم يُفرد الصحيح، بل أدخلَ فيه المُرسل والمُنقطع والبَلاغات، ومن بَلاغاته أحاديث لا تُعرف، كما ذكره ابن عبد البر، فلم يُفرد الصَّحيح إذَنْ. وقال مَغْلطاي: لا يَحْسن هذا جوابًا، لوجُود مثل ذلك في كتاب البُخاري. وقال شيخُ الإسْلام: كتاب مالك صحيح عندهُ وعند من يُقلِّده، على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمُرسل والمُنقطع وغيرهما، لا على الشَّرط الذي تقدَّم التَّعريف به. قال: والفَرْقُ بين ما فيه من المُنقطع، وبينَ ما في البُخَاري، أنَّ الذي في «المُوطأ» هو كذلك مَسْمُوع لمالك غالبًا، وهو حُجَّة عنده، والَّذي في البُخاري قد حذف إسْنَاده عمدًا لقصد التَّخفيف، إن كان ذكره في موضع آخر موصولا، أو لقصد التَّنويع إن كان على غير شرطه، ليخرجه عن موضوع كتابه، وإنَّما يذكر ما يذكر من ذلك تنبيهًا واسْتشهادًا واستئناسًا وتفسيرًا لبعض آياتٍ وغير ذلك مِمَّا سيأتي عند الكلام على التَّعليق. فظهر بهذا أنَّ الَّذي في البُخاري لا يُخرجه عن كونه جرَّد فيه الصَّحيح بخلاف «الموطأ» وأمَّا ما يتعلَّق «بمسند» أحمد والدَّارمي فسيأتي الكلام فيه في نوع الحَسَن، عند ذكر المَسَانيد. ثمَّ مُسْلم وهُمَا أصح الكُتب بعد القُرآن، والبُخَاريُّ أصَحُّهما وأكثرهُمَا فوائد، وقيلَ: مُسلم أصح، والصَّوَاب الأوَّل. ثمَّ تلا البُخَاري في تصنيف الصَّحيح مسلم بن الحجَّاج تلميذه. قال العِرَاقيُّ: وقد اعترض هذا بقول أبي الفضل أحمد بن سلمة: كنت مع مسلم بن الحجَّاج في تأليف هذا الكتاب سنة خمس ومئتين، وهذا تصحيف إنَّما هو بزيادة الياء والنُّون لأنَّ في سنة خمس كان عُمُر مسلم سنة، بل لم يكن البُخَاري صنَّف إذ ذاك، فإنَّ مولده سنة أربع وتسعين ومئة. وهُمَا أصح الكُتب بعد القُرآن العزيز، قال ابن الصَّلاح: وأمَّا ما رويناه عن الشَّافعي من أنَّه قال: ما أعلم في الأرض كِتَابًا أكثر صوابًا من كتاب مالك، وفي لفظ عنه: ما بعد كتاب الله أصح من «موطأ» مالك، فذلك قبل وجُود الكتابين. والبُخاري أصحهما أي: المُتَّصل فيه دون التعليق، والتراجم وأكثرهما فوائد لما فيه من الاستنباطات الفقهية، والنكت الحكمية، وغير ذلك. وقيل: مسلم أصح، والصَّواب الأوَّل وعليه الجُمهور لأنَّه أشد اتِّصالا وأتقن رِجَالاً.
وبيانُ ذلكَ من وجُوه: أحدها: إنَّ الذين انفرد البُخَاري بالإخراج لهم دون مسلم أربع مئة وبضعة وثلاثون رجلاً، المُتكلَّم فيهم بالضَّعف منهم ثمانون رجلاً، والذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البُخَاري ست مئة وعشرون، المُتكلَّم فيهم بالضعف منهم مئة وستون. ولا شك أنَّ التخريج عمَّن لم يُتكلَّم فيه أصلاً، أولى من التخريج عمَّن تُكلِّم فيه، إن لم يكن ذلك الكلام قادحًا. ثانيها: إنَّ الذين انفرد بهم البُخَاري مِمَّن تُكلِّم فيه، لم يُكثر من تخريج أحاديثهم، وليس لواحد منهم نسخة كثيرة أخرجها كلها أو أكثرها، إلاَّ ترجمة عكرمة عن ابن عبَّاس، بخلاف مُسلم فإنَّه أخرج أكثر تلك النُّسخ، كأبي الزُّبير عن جابر وسُهيل عن أبيه، والعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، وحمَّاد بن سلمة عن ثابت، وغير ذلك. ثالثها: إنَّ الذين انفردَ بهم البُخَاري مِمَّن تُكلِّم فيهم، أكثرهم من شُيوخه الَّذين لقيهم وجَالسَهُم وعرفَ أحوالهم، واطَّلع على أحاديثهم، وعرف جيدها من غيره، بخلاف مسلم، فإنَّ أكثر من تفرَّد بتخريج حديثه ممَّن تُكلِّم فيه مِمَّن تقدَّم عن عصره من التابعين فمن بعدهم. ولا شكَّ أنَّ المُحدِّث أعرف بحديث شُيوخه وبصحيح حديثهم من ضعيفه، مِمَّن تقدَّم عنهم. رابعها: إنَّ البُخَاري يُخرِّج عن الطَّبقة الأولى البالغة في الحفظِ والإتقان، ويُخرِّجُ عن طبقة تليها في التَّثبت وطُول المُلازمة اتِّصالا وتعليقًا، ومسلم يُخرِّج عن هذه الطَّبقة أصولاً، كما قرَّره الحازمي. خامسها: إنَّ مُسلمًا يرى أنَّ للمُعنعن حُكم الاتِّصَال إذا تعاصرا، وإن لم يثبت اللقى، والبُخَاري لا يرى ذلك حتَّى يثبت كما سيأتي، وربما أخرج الحديث الَّذي لا تَعِلُّق له بالبَاب أصْلاً، إلاَّ ليُبين سَمَاع راوٍ من شيخه، لِكَونه أخرج له قبلَ ذلكَ مُعنعنًا. سَادسها: إنَّ الأحاديث الَّتي انْتُقدت عليهما نحو مئتي حديث وعشرة أحاديث، كما سيأتي أيضًا، اختص البُخَاري منها بأقلِّ من ثمانين، ولا شكَّ أنَّ ما قلَّ الانتقاد فيه أرجح مِمَّا كثر. وقال المُصنِّف في «شرح البُخَاري» من أخصِّ ما يرجح به كتاب البُخَاري اتِّفاق العُلماء، على أنَّ البُخاري أجل من مسلم وأصدق بمعرفة الحديث ودَقَائقه، وقد انتخب علمه، ولخَّص ما ارتضاهُ في هذا الكتاب. وقال شيخ الإسْلام: اتَّفق العُلماء على أنَّ البُخَاري أجلَّ من مُسلم في العُلوم وأعرف بصناعة الحديث، وأنَّ مسلمًا تلميذه وخريجه، ولم يزل يستفيد منه، ويتبع آثاره، حتَّى قال الدَّارقطني: لولا البُخَاري ما راح مسلم ولا جاء.
تنبيه: عبارةُ ابن الصَّلاح: وروينا عن أبي علي النَّيسابوري شيخ الحاكم أنَّه قال: ما تحت أديم السَّماء كتاب أصح من كتاب مسلم. فهذا وقول من فضَّل من شُيوخ المغرب كتاب مسلم على كتاب البُخَاري، إن كان المراد به أنَّ كتاب مُسلم يترجَّح، بأنَّه لم يُمازجه غير الصَّحيح، فإنَّه ليسَ فيه بعد خُطبته إلاَّ الحديث الصَّحيح مسرُودا، غير ممزوج بمثل ما في كتاب البُخَاري، فهذا لا بأس به، ولا يلزم منه أنَّ كِتَاب مُسْلم أرجحَ فيما يرجع إلى نفس الصَّحيح، وإن كان المُرَاد أنَّ كتاب مسلم أصح صحيحًا، فهو مردودٌ على من يقوله. قال شيخ الإسلام ابن حجر: قولُ أبي علي ليسَ فيه ما يقتضي تصريحه بأنَّ كتاب مسلم أصح من كتاب البُخَاري، خلاف ما يقتضيه إطْلاق الشَّيخ مُحيي الدِّين في مختصره وفي مقدمة شرح البُخَاري له، وإنَّما يقتضي نفي الأصحية عن غير كتاب مسلم عليه، أمَّا إثباتها له فلا، لأنَّ إطلاقه يحتمل أن يُريد ذلك، ويُحتمل أنَّه يُريد المُسَاواة كمَا قال في حديث: «ما أظَّلت الخَضْراء، ولا أقَّلت الغَبْراء، أصْدق لَهْجة من أبي ذَرٍّ». فهذا لا يقتضي أنَّه أصدق من جميع الصَّحابة، ولا الصِّديق، بل نفى أن يكون فيهم أصدقَ منهُ، فيكون فيهم من يُسَاويه. وممَّا يدل على أنَّ عُرفهم في ذلك الزَّمان ماشٍ على قانون اللغة: أنَّ أحمد بن حنبل قال: ما بالبصرة أعلم- أو قال: أثبت- من بِشْرِ بن المُفَضَّل، أمَّا مثله فعسى. قال: ومع احتمال كلامه ذلك، فهو مُنفرد سواء قصدَ الأوَّل أو الثاني. قال: وقد رأيتُ في كلام الحافظ أبي سعيد العَلائي ما يُشْعر بأنَّ أبا علي لم يقف على «صحيح» البُخَاري. قال: وهذا عندي بعيد، فقد صَحَّ عن بَلديِّه وشيخه أبي بكر بن خُزيمة أنَّه قال: ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمَّد بن إسْمَاعيل، وصحَّ عن بلديِّه ورفيقه أبي عبد الله بن الأخرم، أنَّه قال: قَلَّما يفوت البُخَاري ومُسلمًا من الصَّحيح. قال: والَّذي يظهر لي من كلام أبي عليِّ أنَّه قدَّم «صحيح» مسلم لمعنى آخر غير ما يرجع إلى ما نحنُ بصدده من الشَّرائط المطلُوبة في الصِّحة، بل لأنَّ مُسلمًا صنَّف كتابه في بلده بحضور أُصوله في حياة كثير من مشايخه، فكانَ يتحرَّز في الألفاظ، ويتحرَّى في السِّياق بخلاف البُخَاري، فربما كتبَ الحديث من حفظه، ولم يُميز ألفاظ روايته، ولهذَا ربَّما يعرض له الشَّك، وقد صحَّ عنه أنَّه قال: ربَّ حديث سمعته بالبصرة فكتبته بالشَّام. ولم يتصد مسلم لمَّا تصدَّى له البُخَاري من استنباط الأحكام، وتقطيع الأحاديث، ولم يُخرِّج الموقوفات. قال: وأمَّا ما نقلهُ عن بعض شُيوخ المَغَاربة فلا يُحفظ عن أحد منهم تقييد الأفْضَلية بالأصحية، بل أطْلقَ بعضهم الأفضلية، فحَكَى القاضي عياض، عن أبي مروان الطُّبْني- بضم المهملة وسُكون الموحدة، ثمَّ نون – قال: كان بعض شُيوخي يُفضِّل «صحيح» مسلم على «صحيح» البُخَاري، قال: وأظنه عَنَى ابن حَزْم. فقد حكى القاسم التجيبي في «فِهْرسته» عنه ذلك، قال: لأنَّه ليس فيه بعد الخُطبة إلاَّ الحديث السَّرد. وقال مَسْلمة بن قاسم القُرْطبي، من أقْرَان الدَّارقطني: لم يصنع أحد مثل «صحيح» مسلم، وهذا في حُسْن الوضع وجَوْدة التَّرتيب، لا في الصِّحة. واختصَّ مُسلم بجمعِ طُرقِ الحديث في مكانٍ وَاحدٍ. ولهذا أشَار المُصنَّف حيث قال من زيادته على ابن الصَّلاح: واختصَّ مسلم بجمع طُرق الحديث في مكان واحد بأسانيده المُتعدِّدة، وألفاظه المُختلفة، فسَهُل تناوله بخلاف البُخَاري، فإنَّه قطَّعها في الأبواب بسبب استنباطه الأحكام منها، وأورد كثيرًا منها في مظنته. قال شيخ الإسلام: ولهذا نرَى كثيرًا ممَّن صنَّف في الأحكام من المغاربة يعتمد على كتاب مسلم في سياق المتون دون البُخَاري، لتقطيعه لها. قال: وإذا امتاز مُسلم بهذا فللبخاري في مُقابلته من الفَضْل ما ضمَّنه في أبوابه من التَّراجم الَّتي حيَّرت الأفْكَار. وما ذكره الإمام أبو محمد بن أبي جمرة عن بعض السادة قال: ما قُرئ «صحيح» البُخَاري في شِدَّة إلا فُرجت، ولا رُكِبَ به في مركب فغرق.
فوائد: الأولى: قال ابن المُلقَّن: رأيتُ بعض المُتأخرين قال: إنَّ الكِتَابين سواء، فهذا قولٌ ثالث، وحكاهُ الطُّوفي في «شرح الأربعين» ومالَ إليه القُرْطبي. الثانية: قدَّم المُصنِّف هذه المسألة وأخرَّ مسألة إمكان التصحيح في هذه الأعصار عكس ما صنع ابن الصَّلاح لمناسبة حسنة، وذلك أنَّه لما كان الكلام في الصَّحيح ناسب أن يذكر الأصح فبدأ بأصح الأسانيد، ثمَّ انتقل إلى أخص منه وهو أصح الكتب. الثَّالثة: ذكر مسلم في مقدمة «صحيحه» أنَّه يقسم الأحاديث ثلاثة أقْسَام: الأوَّل: ما رواه الحُفَّاظ المُتقنون، والثَّاني: ما رواه المستورون والمتوسِطُون في الحفظ والإتقان، والثالث: ما رواه الضعفاء والمتروكون، وأنَّه إذا فرغ من القسم الأوَّل أتبعه الثاني، وأمَّا الثالث فلا يعرج عليه. فاختلف العُلماء في مُراده بذلك: فقال الحاكم والبَيْهقي: إنَّ المَنِية اخترمت مُسلمًا قبل إخراج الثاني، وأنَّه إنَّما ذكر القسم الأوَّل. قال القاضي عِيَاض: وهذا مِمَّا قبلهُ الشيوخ والنَّاس من الحاكم، وتابعُوه عليه. قال: وليس الأمر كذلك، بل ذكر حديث الطَّبقة الأولى، وأتى بأحاديث الثَّانية على طريق المُتَابعة والاستشهاد، أو حيث لم يجد في الباب من حديث الأول شيئا، وأتى بأحاديث طبقة ثالثة، وهم أقوام تكلَّم فيهم أقوام، وزكَّاهم آخرون، ممَّن ضُعِّف، أو اتهم ببدعة، وطرح الرَّابعة كما نصَّ عليه. قال: والحاكم تأوَّل أنَّ مُراده أن يُفرد لكلِّ طبقة كتابًا، ويأتي بأحاديثها خاصة مُفردة، وليس ذلك مُراده. قال: وكذلك علَّل الأحاديث الَّتي ذكر أنَّه يأتي بها قد وفَّى بها في مواضعها من الأبواب من اختلافهم في الأسَانيد، كالإرسال والإسْنَاد، والزِّيادة والنَّقص، وتصاحيف المُصحفين. قال: ولا يعترض على هذا بما قاله ابن سُفيان صاحب مُسلم: أنَّ مسلما أخرج ثلاثة كتب من المسندات، أحدها: هذا الذي قرأهُ على النَّاس، والثاني: يدخل فيه عكرمة وابن إسحاق وأمثالهما، والثالث: يدخل فيه من الضعفاء، فإنَّ ذلك لا يُطَابق الغرض الَّذي أشَار إليه الحاكم، مِمَّا ذكرهُ مُسلم في صدر كِتَابه. قال المُصنِّف: وما قالهُ عِيَاض ظاهرٌ جدًّا. الرَّابعة: قال ابن الصَّلاح: قد عِيبَ على مُسلم رِوَايته في «صحيحه» عن جَمَاعة من الضُعفاء والمُتوسطين الَّذين ليسُوا من شرط الصَّحيح. وجوابه من وجُوه: أحدها: أنَّ ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره، ثقة عنده. والثاني: أنَّ ذلكَ واقع في المُتابعات والشَّواهد، لا في الأصول، فيذكر الحديث أولاً بإسناد نظيف، ويجعلهُ أصلاً ثمَّ يتبعه بإسناد، أو أسانيد فيها بعض الضُعفاء على وجه التأكيد والمُبَالغة، أو لزيادة فيه تُنبه على فائدة فيما قدَّمه. الثالث: أن يكون ضعف الضعيف الَّذي اعتدَّ به طرأ بعد أخذه عنه باختلاط، كأحمد بن عبد الرَّحمن ابن أخي عبد الله بن وهب، اختلط بعد الخمسين ومئتين، بعد خُروج مسلم من مصر. الرَّابع: أن يعلو بالضعيف إسناده، وهو عنده من رِوَاية الثِّقات نازل، فيقتصر على العالي، ولا يطول بإضافة النازل إليه، مُكتفيًا بمعرفة أهل الشَّأن ذلك، فقد روينا أنَّ أبا زرعة أنكرَ عليه روايته عن أسْبَاط بن نصر وقَطَن وأحمد بن عيسى المِصْري، فقال: إنَّما أدخلتُ من حديثهم ما رواه الثِّقات عن شُيوخهم، إلاَّ أنَّه ربما وقع إليَّ عنهم بارتفاع، ويَكُون عندي من رواية أوثق منه بنزُول، فأقتصر على ذلك. ولامه أيضًا على التَّخريج عن سُويد فقال: من أينَ كُنتُ آتي بنسخة حفص عن ميسرة بعلو. ولَمْ يَسْتوعبَا الصَّحيح ولا الْتَزَماهُ. ولم يستوعبا الصَّحيح في كتابيهما ولا التزماه أي: استيعابهُ. فقد قال البُخَاري: ما أدخلتُ في كتاب «الجامع» إلاَّ مَا صحَّ، وتركتُ من الصِّحَاح مَخَافة الطُّول. وقال مُسلم: ليسَ كل شيء عندي صحيح وضعتهُ ههنا، إنَّما وضعتُ ما أجمعُوا عليه. يُريد ما وجد عنده فيها شرائط الصَّحيح المُجْمع عليه، وإنْ لم يظهر اجتماعها في بعضها عند بعضهم. قاله ابن الصَّلاح. ورجَّح المُصنِّف في «شرح مسلم» أنَّ المراد ما لم تختلف الِّثقات فيه في نفس الحديث متنًا وإسنادًا، لا ما لم يختلف في توثيق رُواته. قال: ودليلُ ذلك أنَّه سُئل عن حديث أبي هُريرة: «فإذَا قَرَأ فأنْصتُوا». هل هو صحيح؟ فقال: عندي هو صحيح. فقيل: لِمَ لَمْ تضعهُ هنا؟ فأجاب بذلك. قال: ومع هذا فقد اشْتملَ كتابه على أحاديث اختلفوا في متنها أو إسْنَادهَا، وفي ذلكَ ذهول منه عن هذا الشَّرط، أو سبب آخر. وقال البَلْقيني: أرادَ مُسلم إجماع أربعة، أحمد بن حنبل، وابن معين، وعُثمان بن أبي شَيْبة، وسعيد بن منصور الخُرَاساني. قال المُصنِّف في «شرح مسلم»: وقد الزمهمَا الدَّارقطني وغيره إخراج أحاديث على شَرْطهما لم يُخرجَاها، وليس بلازم لهما لعدم التزامهما ذلك. قال: وكذلك قال البيهقي: قد اتفقا على أحاديث من صحيفة همَّام، وانفرد كل واحد منهما بأحاديث منها، مع أنَّ الإسناد واحد. قال المُصنِّف: لكن إذا كان الحديث الذي تركاهُ أو أحدهما مع صِحَّة إسنادهِ في الظَّاهر أصلاً في بابهِ، ولم يُخرجَا له نظيرًا، ولا ما يقوم مقامهُ فالظَّاهر أنَّهُما ما اطلعا فيه على عِلَّة، ويُحتمل أنَّهُما نَسياهُ أو تَركاهُ خشية الإطالة، أو رأيا أنَّ غيره يَسُد مسده. قيل: ولَمْ يَفُتْهُما منه إلاَّ القليل، وأُنْكرَ هذا، والصَّواب أنَّه لم يَفُت الأصول الخمسة إلاَّ اليَسِير، أعِنِي «الصَّحيحين» و«سنن» أبي دَاود، والتِّرمذي، والنَّسائي. قيل أي: قال الحافظ أبو عبد الله بن الأخرم: ولم يَفُتهما منه إلاَّ القليل وأُنكر هذا لِقَول البُخَاري فيما نقلهُ الحازمي والإسْمَاعيلي: وما تركتُ من الصِّحاح أكثر. قال ابن الصَّلاح: و«المستدرك» للحاكم كتابٌ كبير يَشْتمل مِمَّا فاتهما على شيء كثير، وإن يكن عليه في بعضه مَقَال، فإنَّه يَصْفُو له منه صحيح كثير. قال المُصنِّف زيادة عليه: والصَّواب أنَّه لم يَفُت الأصول الخَمْسة إلاَّ اليسير، أعني «الصَّحيحين» و«سنن» أبي داود، والتِّرمذي، والنَّسائي. قال العِرَاقيُّ: في هذا الكلام نظر، لقول البُخَاري: أحفظُ مئة ألف حديث صحيح، ومئتي ألف حديث غير صحيح. قال: ولعلَّ البُخَاري أراد بالأحاديث المُكرَّرة الأسانيد والموقُوفات، فربَّما عدَّ الحديث الواحد المروي بإسنادين حديثين. زاد ابن جماعة في «المنهل الرَّوي»: أو أراد المُبَالغة في الكثرة. قال: والأوَّل أولى. قيل: ويُؤيد أنَّ هذا هو المُراد أنَّ الأحاديث الصِّحاح التي بين أظهرنا، بل وغير الصِّحاح لو تتبعت من المَسَانيد والجَوَامع والسُّنن والأجزاء وغيرها، لمَا بلغت مئة ألف بلا تكرار، بل ولا خمسين ألفًا، ويبعد كل البُعْد أن يكون رَجُل واحد حفظَ ما فات الأمَّة جميعه، فإنَّه إنَّما حفظه من أصُول مشايخه وهي موجودة. وقال ابن الجَوْزي: حصر الأحاديث يبعد إمكانه، غير أنَّ جماعة بالغُوا في تتبعها وحصرها. قال الإمام أحمد: صحَّ سبع مئة ألف وكسر. وقال: جمعتُ في «المُسند» أحاديث انتخبتها من أكثر من سبع مئة ألف وخمسين ألفًا. قال شيخ الإسْلام: ولقد كان استيعاب الأحاديث سَهْلاً، لو أرادَ الله تعالى ذلك، بأن يجمع الأوَّل منهم ما وصلَ إليه، ثمَّ يذكر من بعده ما اطَّلع عليه مِمَّا فاتهُ من حديث مُستقل، أو زيادة في الأحاديث الَّتي ذكرهَا، فيَكُون كالدَّليل عليه، وكذَا من بعده فلا يَمْضي كثير من الزَّمان إلاَّ وقد استوعبت، وصارت كالمُصنف الواحد، ولعمري لقد كان هذا في غاية الحُسْن. قلت: قد صنعَ المتأخِّرون ما يقرب من ذلك، فجمعَ بعض المُحدِّثين عمَّن كان في عصر شيخ الإسلام «زوائد سنن ابن ماجه» على الأصول الخمسة. وجمع الحافط أبو الحسن الهيثمي «زوائد مسند» أحمد على الكتب الستة المذكورة في مجلدين، و«زوائد مسند البزَّار» في مجلد ضخم، و«زوائد معجم الطَّبراني الكبير» في ثلاثة، و«زوائد المُعجمين» الأوسط والصَّغير في مجلدين، و«زوائد أبي يَعْلى» في مجلد، ثمَّ جمع هذه الزوائد كلها محذوف الأسَانيد، وتكلَّم على الأحاديث، ويوجد فيها صحيح كثير، وجمع «زوائد الحِلْية» لأبي نعيم في مجلد ضخم، و«زوائد فوائد تمَّام» وغير ذلك. وجمع شيخ الإسلام زوائد مسانيد إسحاق، وابن أبي عُمر، ومُسَدَّد، وابن أبي شيبة، والحُميدي، وعبد بن حُميد، وأحمد بن مَنِيع، والطَّيالسي في مجلدين و«زوائد مسند الفردوس» في مجلد. وجمع صاحبنا الشَّيخ زين الدِّين قاسم الحنفي «زوائد سُنن الدَّارقطني» في مجلد. وجمعتُ «زوائد شُعب الإيمان» للبيهقي في مجلد، وكُتب الحديث الموجودة سواها كثيرة جدَّا، وفيها الزَّوائد بكثرة فبلوغها العدد السَّابق لا يبعد والله أعلم.
تنبيهات: أحدها: ذكر الحاكم في «المَدْخل» أنَّ الصَّحيح عشرة أقسام، وسيأتي نقلها عنه وذكر منها في القسم الأوَّل الَّذي هو الدَّرجة الأُولى، واختيار الشَّيخين أن يرويه الصَّحابي المشهور بالرِّواية، وله راويان ثقتان إلى آخر كلامه الآتي عنهُ، ثمَّ قال: والأحاديث المَرْوية بهذه الشَّريطة لا يبلغ عددها عشرة آلاف حديث. انتهى. وحينئذ يعرف من هذا الجواب عن قول ابن الأخرم، فكأنَّه أراد: لم يفتهما من أصح الصَّحيح الَّذي هو الدَّرجة الأولى، وبهذا الشَّرط إلاَّ القليل، والأمر كذلك. الثَّاني: لم يُدخل المُصنِّف «سنن» ابن ماجة في الأصول، وقد اشتهر في عصر المُصنَّف وبعده جعل الأصول ستة، بإدخاله فيها. قيل: وأوَّل من ضمَّه إليها ابن طاهر المقدسي، فتابعهُ أصحاب الأطراف والرِّجال والنَّاس. وقال المِزِّي: كل ما انفردَ به عن الخمسة فهو ضعيف. قال الحُسيني: يعني من الأحاديث. وتعقبه شيخ الإسلام: بأنَّه انفرد بأحاديث كثيرة وهي صحيحة، قال: فالأولى حمله على الرِّجال. الثَّالث: «سنن» النَّسائي الَّذي هو أحد الكتب الستة أو الخمسة، هي الصُّغرى دون الكُبرى. صرَّح بذلكَ التاج ابن السُّكبي قال: وهي الَّتي يُخرجون عليها الأطراف والرِّجال، وإن كان شيخه المِزِّي ضمَّ إليها الكُبرى. وصرَّح ابن المُلقن بأنَّها الكبرى وفيه نظر. ورأيتُ بخطِّ الحافظ أبي الفضل العِرَاقي: أنَّ النَّسائي لمَّا صنَّف الكُبرى أهداها لأمير الرَّملة، فقال له: كلُّ ما فيها صحيح؟ فقال: لا. فقال: ميَّز لي الصَّحيح من غيره، فصنَّف له الصُّغْرى. وجُمْلة ما في البُخَاري سَبْعةُ آلاف ومئتانِ وخَمْسةٌ وسَبْعُون حديثًا بالمُكرَّرة، وبحذفِ المُكرَّرة أربعةُ آلاف. وجُمْلة ما في صحيح البُخَاري قال المُصنِّف في شَرْحه: من الأحاديث المُسْندة سبعة آلاف حديث ومئتان وخمسة وسَبْعُون حديثًا بالمكَرَّرة، وبحذف المُكَّررة أربعة آلآف. قال العِرَاقي: هذا مُسَلَّمٌ في رِوَاية الفَرْبَري وأمَّا رِوَاية حمَّاد بن شاكر فهي دُون رِوَاية الفربري بمئتي حديث، ورِوَاية إبراهيم بن مَعْقل دونهما بثلاث مئة. قال شيخ الإسلام: وهذا قالُوه تقليدًا للحموي، فإنَّه كتب البُخاري عنهُ، وعدَّ كل باب منه، ثمَّ جمعَ الجُملة، وقلَّدهُ كل من جاء بعده، نظرًا إلى أنَّه راوي الكتاب، وله به العناية التَّامة. قال: ولقد عددتُها وحرَّرتها، فبلغت بالمكررة، سوى المُعلَّقات والمُتابعات سَبْعة آلاف وثلاث مئة وسبعة وتسعين حديثًا، وبدون المُكَرَّرة ألفين وخمس مئة وثلاثة عشر حديثًا، وفيه من التعاليق ألف وثلاث مئة وأحد وأربعون، وأكثُرها مُخرَّج في أصُول مُتونه، والَّذي لم يُخرِّجه مئة وسُتون، وفيه من المُتابعات والتَّنبيه على اختلاف الرِّوايات ثلاث مئة وأربعة وثَمَانون. هكذا وقع في «شرح البُخَاري» ونُقل عه ما يُخالف هذا يَسيرًا. قال: وهذا خارجٌ عن الموقُوفات والمَقَاطيع.
فائدتان: الأولى: سَاقَ المُصنِّف هذا الكلام مساق فائدة زائدة. قال شيخ الإسلام: وليسَ ذلك مُراد ابن الصَّلاح، بل هو تتمة قَدْحه في كلام ابن الأخْرمِ، أي: أنَّ البُخَاري قال: أحفظ مئة ألف حديث صحيح، وليس في كتابه إلاَّ هذا القدر، وهو بالنِّسبة إلى المئة ألف يسير. الثانية: وافقَ مسلم البُخَاري على تخريج ما فيه إلاَّ ثمان مئة وعشرين حديثا. ومُسْلم بإسْقَاط المُكَرَّر نحو أرْبَعةِ آلاف. و جُمْلة ما في «صحيح» مُسلم بإسْقَاط المُكَرَّر نحو أرْبَعة آلاف هذا مَزِيد على ابن الصَّلاح. قال العِرَاقي: وهو يزيد على البُخَاري بالمكرَّر لكثرة طُرقه، قال: وقد رأيتُ عن أبي الفضل أحمد بن سَلَمة: أنَّه اثنا عشر ألف حديث. وقال الميانجي: ثمانية آلاف. فالله أعلم. قال ابن حَجَر: وعندي في هذا نظر. ثمَّ إنَّ الزِّيَادة في الصَّحيح تعرف من السُّنن المُعْتمدة، كَسُنن أبي داود، والتِّرمذي، والنَّسائي، وابن خُزَيمة، والدَّارقُطْني، والحاكم، والبَيْهقي، وغيرها مَنْصوصًا على صِحَّته، ولا يكفي وجُوده فيهَا إلاَّ في كتاب من شَرْط الاقْتَصار على الصَّحيح، واعْتَنى الحاكم بِضَبط الزَّائد عليهما، وهو مُتَساهلٌ. ثمَّ إنَّ الزِّيادة في الصَّحيح عليهما تعرف من كتب السُّنن المُعْتمدة كسنن أبي داود، والتِّرمذي، والنَّسائي، وابن خُزيمة، والدَّارقُطْني، والحاكم، والبَيْهقي، وغيرها منصوصًا على صِحَّته فيها ولا يكفي وجُوده فيها إلاَّ في كتاب من شرط الاقْتْصَار على الصَّحيح كابن خُزَيمة، وأصْحَاب المُسْتخرجات. قال العِرَاقي: وكذا لو نَصَّ على صِحَّته أحد منهم، ونُقل عنه ذلك بإسناد صحيح، كما في سُؤالات أحمد بن حنبل، وسُؤالات ابن معين وغيرهما. قال: وإنَّما أهمله ابن الصَّلاح بناء على اخْتياره أنَّه ليسَ لأحد أن يُصحِّح في هذه الأعصار، فلا يكفي وجود التَّصحيح بإسناد صحيح، كما لا يكفي وجود أصل الحديث بإسْنَاد صحيح. واعتنى الحافظ أبو عبد الله الحاكم في «المستدرك» بضبط الزَّائد عليهما مِمَّا هو شرطهما، أو شرط أحدهما، أو صحيح، وإن لم يُوجد شرط أحدهما مُعبرًا عن الأوَّل بقوله: هذا حديث صحيح على شرط الشَّيخين، أو على شرط البُخَاري، أو مسلم، وعن الثاني بقوله: هذا حديث صحيح الإسناد، وربَّما أورد فيه ما هو في «الصَّحيحين» وربَّما أورد فيه ما لم يصح عنده، مُنبهًا على ذلك وهو مُتساهل في التصحيح. قال المُصنِّف في «شرح المُهذَّب»: اتَّفق الحُفَّاظ على أنَّ تلميذه البيهقي أشد تحريًا منه، وقد لخَّص الذَّهبي «مستدركه» وتعقَّب كثيرًا منه بالضَّعف والنكارة وجمع جُزءًا فيه الأحاديث الَّتي فيه وهي موضوعة، فذكر نحو مئة حديث. وقال أبو سَعْد المَاليني: طالعتُ «المُستدرك» الذي صنَّفه الحاكم، من أوَّله إلى آخره، فلم أر فيه حديثًا على شرطهما. قال الذَّهبي: وهذا إسرافٌ وغُلو من المَاليني، وإلاَّ ففيه جملة وافرة على شرطهما، وجُملة كثيرة على شرط أحدهما، لعل مجموع ذلك نحو نصف الكتاب، وفيه نحو الرُّبع مما صحَّ سنده، وفيه بعض الشيء، أو له عِلَّة، وما بقي وهو نحو الرُّبع فهو مناكير، وواهيات لا تصح، وفي بعض ذلك موضُوعات. قال شيخ الإسلام: وإنَّما وقعَ للحاكم التَّساهل لأنَّه سَوَّد الكِتَاب ليُنَقحه فأعْجَلتهُ المَنِية، قال: وقد وجدتُ في قريب نصف الجزء الثَّاني من تجزئة ستة من «المُسْتدرك» إلى هنا انتهى إملاء الحاكم، ثمَّ قال: وما عَدَا ذلك من الكتاب لا يُؤخذ عنه إلاَّ بطريق الإجَازة، فمن أكبر أصْحَابه وأكثر النَّاس له مُلازمة البيهقي، وهو إذا ساق عنه من غير المملى شيئًا لا يذكرهُ إلاَّ بالإجازة، قال: والتَّساهل في القدر المملى قليل جدَّا بالنسبة إلى ما بعدهُ. فمَا صَحَّحهُ ولم نَجْد فيه لِغَيرهِ من المُعتمدين تَصْحيحًا ولا تَضْعيفًا، حكمنا بأنَّه حسنٌ، إلاَّ أن يَظْهر فيه عِلِّة تُوجب ضعفهُ، ويُقاربه في حُكمه صحيح أبي حاتم ابن حبَّان. فما صحَّحهُ ولم نجد فيه لغيره من المُعتمدين تَصْحيحًا ولا تضعيفا حكمنا بأنَّه حسن، إلاَّ أن يظهر فيه عِلَّة توجب ضعفه. قال البدر بن جماعة: والصَّواب أنَّه يُتتبع ويُحكم عليه بما يليق بحاله من الحُسْن أو الصحَّة أو الضَّعف. ووافقه العِرَاقي وقال: إنَّ حُكمهُ عليه بالحسن فقط تحكم، قال: إلاَّ أنَّ ابن الصَّلاح قال ذلك بناء على رأيه: أنَّه قد انقطع التَّصحيح في هذه الأعْصَار، فليسَ لأحد أن يُصححه، فلهذَا قطع النَّظر عن الكشف عليه. والعَجَب من المُصنِّف كيفَ وافقهُ هنا مع مُخالفته له في المَسْألة المَبْني عليها، كمَا سيأتي، وقوله: فَمَا صَحَّحه، احتراز مِمَّا خرَّجه في الكتاب ولم يُصَرِّح بتصحيحه فلا يُعتمد عليه. ويُقَاربهُ أي: صحيح الحاكم في حُكمه «صحيح» أبي حاتم ابن حبَّان قيل: إنَّ هذا يُفهم ترجيح كتاب الحاكم عليه، والواقع خلافُ ذلك. قال العِرَاقيُّ: وليسَ كذلك وإنَّما المُراد أنَّه يُقَاربه في التَّساهل، فالحاكم أشد تَسَاهلاً منهُ. قال الحازمي: ابن حبَّان أمكن في الحديث من الحاكم. قيل: وما ذُكِرَ من تساهل ابن حبَّان ليسَ بصحيح، فإنَّ غايتهُ أنَّه يُسمِّي الحسن صحيحًا، فإن كانت نسبته إلى التَّساهُل باعتبار وجدان الحسن في كتابه، فهي مشاحة في الاصطلاح، وإن كانت باعتبار خِفَّة شروطه، فإنَّه يخرج في الصَّحيح ما كان راويه ثقة غير مُدلس سمع من شيخه، وسمع منه الآخذ عنه، ولا يكون هناك إرْسَال ولا انقطاع، وإذا لم يكن في الرَّاوي جرح ولا تعديل، وكان كل من شيخه والرَّاوي عنه ثقة، ولم يأته بحديث مُنكر فهو عنده ثقة. وفي كتاب «الثِّقات» له كثير مِمَّن هذه حاله، ولأجل هذا ربما اعْتُرض عليه في جعلهم ثقات من لم يعرف حاله، ولا اعتراض عليه، فإنَّه لا مشاحة في ذلك، وهذا دون شرط الحاكم، حيث شرط أن يُخَرِّج عن رواة أخرج لمثلهم الشَّيخان في الصَّحيح. فالحاصل أنَّ ابن حبَّان وفَّى بالتزام شُروطه ولم يُوفِّ الحاكم.
فوائد: الأولى: «صحيح» ابن حبَّان ترتيبه مُخْترع ليس على الأبواب، ولا على المسانيد، ولهذا سمَّاه «التقاسيم والأنواع» وسببهُ أنَّه كان عارفًا بالكلام والنحو والفَلْسفة، ولهذا تُكلِّم فيه ونُسب إلى الزَّندقة، وكادُوا يحكمُون بقتله، ثمَّ نُفي من سِجْسْتَان إلى سمرقند، والكشف من كتابه عسر جدًّا، وقد رتَّبه بعض المُتأخرين على الأبواب، وعمل له الحافظ أبو الفضل العِرَاقي أطرافا، وجرَّد الحافظ أبو الحسن الهيثمي زوائده على «الصَّحيحين» في مجلد. الثانية: «صحيح» ابن خُزيمة أعلى مرتبة من «صحيح» ابن حبَّان، لِشدَّة تحرِّيه، حتَّى أنَّه يتوقَّف في التَّصحيح لأدْنَى كلام في الإسناد فيقول: إنْ صحَّ الخبر، أو إن ثبت كذا، ونحو ذلك. وممَّن صَنَّف في الصَّحيح أيضًا غير المُستخرجات الآتي ذِكْرها «السُّنن الصحاح» لسعيد بن السَّكن. الثَّالثة: صرَّح الخطيب وغيره بأنَّ «الموطأ» مُقدَّم على كلِّ كتاب من الجوامع والمسانيد، فعلى هذا هو بعد صحيح الحاكم، وهو روايات كثيرة، وأكبرها رواية القعنبي. وقال العلائي: روى «الموطأ» عن مالك جماعات كثيرة، وبينَ رواياتهم اختلاف من تقديم وتأخير، وزيادة ونقص، ومن أكبرها وأكثرها زيادات رواية أبي مصعب. قال ابن حزم: في «موطأ» أبي مصعب هذا زيادة على سائر المُوطآت نحو مئة حديث. وأمَّا ابن حَزْم فإنَّه قال: أُولَى الكُتب الصَّحيحان، ثمَّ «صحيح» ابن السَّكن و«المُنتفي» لابن الجَارود، و«المُنتفي» لقاسم بن أصبغ، ثمَّ بعد هذه الكُتب كتاب أبي داود، وكتاب النسائي، ومصنَّف قاسم بن أصبغ، ومصنَّف الطحاوي، ومسانيد أحمد، والبزَّار، وابني أبي شيبة أبي بكر، وعثمان، وابن راهويه، والطَّيالسي، والحسن بن سُفيان، والمُسْندي، وابن سنجر، ويعقوب بن شَيْبة، وعلي بن المَديني، وابن أبي غرزة، وما جرى مَجْرَاها، الَّتي أُفْرِدت لكلام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم صرفًا. ثمَّ بعدها الكتب التي فيها كلامهُ وكلام غيره، ثمَّ ما كانَ فيه «الصحيح» فهو أجل، مثل «مصنَّف» عبد الرزَّاق، و«مصنَّف» ابن أبي شيبة، و«مصنَّف» بَقِيِّ بن مخلد، وكتاب محمد بن نصر المَرْزوي، وكِتَاب ابن المُنذر، ثمَّ «مصنَّف» حمَّاد بن سلمة، و«مصنَّف» سعيد بن منصور، و«مصنَّف» وكيع، و«مصنَّف» الفريابي، و«موطأ» مالك، و«موطأ» ابن أبي ذئب، و«موطأ» ابن وهب، ومسائل ابن حنبل، وفِقْه أبي عُبيد، وفِقْه أبي ثَوْر، وما كان من هذا النَّمط مشهورًا، كحديث شُعبة، وسُفيان، والَّليث، والأوزاعي، والحُميدي، وابن مهدي، ومُسَدَّد، وما جَرِى مَجْراها، فهذه طبقة «موطأ» مالك، بعضها أجمع للصحيح منه، وبعضها مثله، وبعضها دونه. ولقد أحصيتُ ما في حديث شُعبة من الصَّحيح، فوجدته ثمان مئة حديث ونيِّفًا مُسْندة، ومرسلاً يزيد على المئتين، وأحْصَيتُ ما في «موطأ» مالك، وما في حديث سُفيان بن عُيينة، فوجدت في كلَّ واحد منهما من «المسند» خمس مئة ونيفًا مُسْندًا، وثلاث مئة مُرسلا ونيفًا، وفيه نيف وسبعون حديثًا قد ترك مالك نفسه العمل بها، وفيها أحاديث ضعيفة وهَّاها جُمهور العلماء. انتهى ملخصًا من كتابه «مراتب الديانة».
الثَّالثة من مسائل الصَّحيح: الكُتب المُخرَّجة على «الصَّحيحين» كالمُستخرج للإسماعيلي، وللبَرْقاني، ولأبي أحمد الغِطْريفي، ولأبي عبد الله بن أبي ذهل، ولأبي بكر بن مَرْدويه على البُخَاري، ولأبي عَوَانه الاسْفراييني، ولأبي جعفر بن حمدان، ولأبي بَكْر محمد رَجَاء النَيْسابوري، ولأبي بكر الجوزقي، ولأبي حامد الشَّاركي، ولأبي الوليد حسَّان بن مُحمَّد القُرَشي، ولأبي عِمْران مُوسى بن العبَّاس الجُويني، ولأبي النَّصر الطُّوسي، ولأبي سعيد بن أبي عُثمان الحِيري على مُسلم، ولأبي نُعيم الأصْبهاني وأبي عبد الله بن الأخرم، وأبي ذر الهَرَوي، وأبي محمد الخلاَّل، وأبي علي المَاسرجي، وأبي مَسْعُود سُليمان بن إبراهيم الأصبهاني، وأبي بكر اليَزِدي، على كلِّ منهما، ولأبي بكر بن عبدان الشِّيرازي عليهما في مُؤلف واحد. وموضُوع المستخرج كمَا قال العِرَاقيُّ: أن يأتي المُصنِّف إلى الكتاب، فيخرج أحاديثهُ بأسانيد لنفسهِ، من غير طريق صاحب الكتاب، فيجتمع معه في شيخه، أو من فوقهُ. قال شيخ الإسلام: وشرطهُ أن لا يصل إلى شيخ أبعد، حتَّى يفقد سَنَدًا يُوصله إلى الأقرب، إلاَّ لِعُذرٍ من علو، أو زيادة مهمة. قال: ولذلك يَقُول أبو عوانة في «مستخرجه» على مسلم، بعد أن يَسُوق طُرق مسلم كلها: من هنا لمخرجه، ثمَّ يسوق أسَانيد يجتمع فيها مع مسلم فيمن فوق ذلك، وربما قال: من هنا لم يُخرجاه. قال: ولا يظن أنَّه يعني البُخَاري ومسلمًا، فإنِّي استقريتُ صَنيعه في ذلك، فوجدته إنَّما- يعني مُسلمًا- وأبا الفَضْل أحمد بن سلمة، فإنَّه كان قرين مُسلم، وصنَّف مثل مسلم، وربَّما أسقطَ المُستخرج أحاديث لم يجد لهُ بها سندًا يرتضيه، وربَّما ذكرها من طريق صاحب الكتاب. لَمْ يَلْتزم فيهَا موافقتهما في الألْفَاظ، فحصَلَ فيها تَفَاوت في الَّلفظ والمَعْنى، وكذَا ما رواه البَيْهقي والبَغَوي وشبههما قَائلين: رواهُ البُخَاري، أو مسلم، وقع في بعضه تفاوت في المعنى، فَمُرادهم أنَّهما رَوَيا أصلهُ، فلا يَجُوز أن تنقل منهَا حديثًا وتقول: هو كذا فيهما، إلاَّ أن تُقَابلهُ بهما، أو يقول المُصنِّف: أخرجَاهُ بلفظهِ، بخلاف المُخْتصراتِ من «الصَّحيحين» فإنَّهم نقلُوا فيها ألْفَاظهُمَا. ثمَّ إن المُسْتخرجات المَذْكُورة لم يلتزم فيها موافقتها أي «الصَّحيحين» في الألفاظ لأنَّهم إنَّما يروون بالألفاظ الَّتي وقعت لهم عن شُيوخهم فحصلَ فيها تفاوت قليل في اللفظ وفي المعنى أقل. وكذا مَا رواه البيهقي في «السُّنن» و«المعرفة» وغيرهما والبغوي في «شرح السُّنة» وشبههما قائلين: رواه البُخَاري أو مسلم وقع في بعضه أيضًا تفاوت في المعنى وفي الألفاظ. فمُرَادهم بقولهم ذلك أنَّهما رويا أصلهُ أي: أصل الحديث دون الَّلفظ الَّذي أوردُوهُ، وحينئذ فلا يَجُوز لك أن تنقل منهما أي من الكُتب المذكُورة من المُستخرجات، وما ذكر حديثا وتقول فيه هو كذا فيهما أي: الصحيحين إلاَّ أن تقابله بهما، أو يقول المُصنَّف أخرجَاه بلفظه، بخلاف المختصرات من «الصَّحيحين» فإنَّهم نقلُوا فيها ألفاظهُمَا من غير زيادة ولا تغيير، فلك أن تنقل منها وتعزو ذلك للصحيح ولو باللفظ. وكذا الجمع بين «الصَّحيحين» لعبد الحقِّ، أمَّا الجمع لأبي عبد الله الحُميدي الأندلسي، ففيه زيادة ألفاظ وتتمات على «الصَّحيحين» بلا تمييز. قال ابن الصَّلاح: وذلكَ موجُودا فيه كثيرا، فربَّما نقل من لا يُميز بعض ما يجدهُ فيه عن «الصَّحيحين» أو أحدهما، وهو مُخطئ لكونه زيادة ليست فيه. قال العِرَاقي: وهذا مِمَّا أُنكر على الحُميدي، لأنَّه جمع بين كتابين، فمن أين تأتي الزِّيادة. قال: واقتضى كلام ابن الصَّلاح: أنَّ الزِّيادات التي تقع في كِتَاب الحُميدي لها حكم الصَّحيح، وليسَ كذلك، لأنَّه ما رَوَاها بسندهِ كالمُستخرج، ولا ذكر أنَّه يزيد ألفاظًا واشترط فيها الصِّحة، حتَّى يقلد في ذلك. قلت: هذا الذي نقلهُ عن ابن الصَّلاح وقع له في الفائدة الرَّابعة، فإنَّه قال: ويكفي وجوده في كتاب من اشترط الصَّحيح، وكذلك ما يُوجد في الكتب المُخرجة من تتمة لمحذوفٍ، أو زيادة شرح، وكثير من هذا موجود في «الجمع» للحميدي. انتهى. وهذا الكلام قابل للتأويل، فتأمَّل! ثمَّ رأيتُ عن شيخ الإسْلام قال: قد أشارَ الحُميدي، إجْمَالا وتفصيلاً إلى ما يُبطل ما اعْتُرض به عليه. أمَّا إجْمَالا فقال في خطبة «الجمع»: وربَّما زدتُ زيادات، من تتمات، وشرح لبعض ألفاظ الحديث، ونحو ذلك. وقفتُ عليها في كتب من اعتنى بالصحيح كالإسماعيلي والبَرْقاني. وأمَّا تفصيلاً، فعلى قسمين: جَلِي وخَفِي، أمَّا الجَلي فيَسُوق الحديث، ثمَّ يَقُول في أثنائه: إلى هنا انتهت رواية البُخَاري، ومن هنا زادهُ البَرَقاني، وأمَّا الخفي، فإنَّه يسوق الحديث كاملاً أصلاً وزيادة، ثمَّ يَقُول: أمَّا من أوَّله إلى موضع كذا، فرواهُ فُلان، وما عداهُ زادهُ فُلان، أو يقول: لفظة كذا زادها فُلان، ونحو ذلك. وإلى هذا أشار ابن الصَّلاح بقوله: فربَّما نقل من لا يُميِّز. وحينئذ، فلزيادته حكم الصِّحة، لنقله لها عمَّن اعتنى بالصَّحيح.
مهمة: ما تقدَّم عن البيهقي ونحوه، من عزو الحديث إلى الصَّحيح، والمُراد أصله، لاشكَّ أنَّ الأحسن خِلافهُ والاعْتناء بالبَيَان حَذَرًا من إيِقَاع من لا يعرف الاصْطلاح في اللبس. ولابن دَقيق العيد في ذلك تفصيل حسن، وهو أنَّك إذا كنتَ في مقام الرِّواية، فلك العزو، ولو خالف، لأنَّه عرف أنَّ جُلَّ قَصْد المُحدِّث السَّند، والعُثور على أصل الحديث دون ما إذا كنتَ في مقام الاحتجاج، فمن روى في المعاجم والمشيخات ونحوها، فلا حرجَ عليه في الإطْلاق بِخلاف من أورد ذلك في الكُتب المُبوبة، لاسيما إن كانَ الصَّالح للترجمة قطعة زائدة على ما في الصَّحيح. وللكُتب المُخَرَّجة عليهمَا فائدتَانِ: عُلو الإسْنَاد، وزيادةُ الصَّحيح، فإنَّ تلكَ الزِّياداتِ صحيحةٌ لِكَوْنها بإسْنَادهما. وللكتب المخرجة عليهما فائدتان إحداهما: عُلو الإسْنَاد لأنَّ مُصَنِّف المُسْتخرج، لو رَوَى حديثًا مثلاً من طريق البُخَاري، لوقع أنزلَ من الطَّريق الَّذي رواهُ به في المستخرج، مثالهُ: أنَّ أبا نُعيم لو رَوَى حديثا عن عبد الرزق من طريق البُخَاري أو مسلم، لَمْ يصل إليه إلاَّ بأربعة، وإذا رواهُ عن الطَّبراني عن الدَّبَري- بفتح المُوحدة- عنه، وصل باثنين، وكذا لو روى حديثًا في «مسند» الطَّيالسي من طريق مسلم، كان بينه وبينهُ أربعة، شيخان بينه وبين مُسلم، ومسلم وشيخه، وإذا رواه عن ابن فارس عن يونس بن حبيب عنه، وصلَ باثنين. و الأُخرى زيادة الصَّحيح، فإن تلك الزيادات صحيحة لكونها بإسنادهما. قال شيخ الإسْلام: هذا مُسَلَّمٌ في الرَّجل الَّذي التقى فيه إسناد المُستخرج، وإسناد مُصنف الأصل، وفيمن بعدهُ، وأمَّا من بين المُستخرج وبين ذلكَ الرَّجل فيحتاج إلى نقد، لأنَّ المُستخرج لم يلتزم الصِّحة في ذلك، وإنَّما جُل قَصْدهِ العُلو، فإنْ حصلَ وقع على غرضه، فإن كان مع ذلكَ صحيحًا، أو فيه زيادة، فزيادة حسن حصلت اتِّفاقا، وإلاَّ فليسَ ذلك هِمَّته. قال: قد وقع ابن الصَّلاح هنا فيما فرَّ منه من عدم التَّصحيح في هذا الزَّمان، لأنَّه أطلق تصحيح هذه الزِّيادات، ثمَّ علَّلها بتعليل أخصَّ من دعواهُ، وهو كونها بذلك الإسْنَاد، وذلكَ إنَّما هو من مُلتقى الإسْنَاد إلى مُنتهاه.
تنبيه: لم يذكر المُصنِّف تبعًا لابن الصَّلاح للمُسْتخرج سِوَى هاتين الفائدتين، وبقي له فوائد أخر: مِنْها: القُوة بكثرة الطُّرق للترجيح عند المُعَارضة، ذكره ابن الصَّلاح في مقدمة «شرح مسلم» وذلكَ بأن يضم المستخرج شخصًا آخر فأكثر مع الَّذي حدَّث مُصنِّف الصَّحيح عنه، وربَّما ساق له طُرقًا أُخرى إلى الصَّحابي بعد فراغه من استخراجه، كما يصنع أبو عوانة. ومنها: أن يكون مُصنِّف الصَّحيح، روى عمَّن اختلط ولم يُبين، هل سَمَاع ذلك الحديث في هذه الرواية قبل الاختلاط أو بعده، فيبينه المُستخرج، إمَّا تصريحًا أو بأن يَرْويه عنه من طريق من لم يسمع منهُ إلاَّ قبل الاختلاط. ومنها: أن يروى في الصَّحيح عن مُدلِّس بالعنعنة، فيرويه المستخرج بالتَّصريح بالسَّماع. فهاتانِ فائدتان جَليلتان، وإن كُنَّا لا نتوقف في صحَّة ما رُوي في الصَّحيح من ذلك غير مبين، ونقول: لو لم يطلع مُصنِّفه على أنَّه روى عنه قبل الاختلاط، وأن المُدلس سمع لم يخرجه. فقد سأل السُّبكي المِزِّي: هل وُجِدَ لكلِّ ما رَوَياهُ بالعنعنة طُرق مُصرَّح فيها بالتَّحديث؟ فقال: كثير من ذلك لم يُوجد، وما يسعنا إلاَّ تحسين الظَّن. ومنها: أن يروي عن مُبهم، كحدَّثنا فُلان، أو رجل، أو فُلان، أوغيره، أو غير واحد، فيُعَيِّنهُ المُستخرج. ومنها: أن يروي عن مُهمل، كمحمَّد من غير ذكر ما يُميِّزه، عن غيره من المُحمدين، ويكون في مشايخ من رواه كذلك من يُشاركه في الاسم، فيُميِّزه المُستخرج. قال شيخ الإسْلام: وكل عِلَّة أعلَّ بها حديث في أحد «الصَّحيحين» جاءت رِوَاية المُستخرج سالمة منها، فهي من فوائده، وذلك كثير جدًّا.
فائدة: لا يختص المُستخرج بالصَّحيحين، فقد استخرجَ محمَّد بن عبد الملك بن أيمن على «سُنن» أبي داود، وأبو علي الطُّوسي على التِّرمذي، وأبو نُعيم على «التَّوحيد» لابن خُزيمة، وأملى الحافظ أبو الفضل العِرَاقي على «المستدرك» مُستخرجًا لم يُكمل.
وأمَّا ما حذف من مُبتدأ إسْنَاده واحد أو أكْثَر، فمَا كانَ منهُ بصيغة الجَزْم، كقَالَ، وفعل، وأمَرَ، ورَوَى، وذكر فُلان، فهو حكم بصحَّته عن المُضَاف إليهِ. الرَّابعة من مسائل الصَّحيح: ما رَوَياه أي: الشَّيخان بالإسْنَاد المُتَّصل فهو المحكوم بصحَّته، وأمَّا ما حذف من مُبتدأ إسناده واحد أو أكثر وهو المُعلَّق، وهو في البُخَاري كثير جدًّا كما تقدَّم عدده، وفي مُسلم في موضع واحد في التَّيمم حيث قال: وروَى اللَّيث بن سعد، فذكر حديث أبي الجَهْم بن الحارث بن الصِّمة: أقبلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من نَحْو بِئْر جَمَل... الحديث، وفيه أيضًا موضعان في الحُدُود والبُيوع، رَوَاهُمَا بالتَّعليق عن اللَّيث، بعد روايتهما بالاتِّصال، وفيه بعد ذلك أرْبَعة عَشَرَ موضعًا، كل حديث منها رواهُ مُتَّصلاً، ثمَّ عقبه بقوله: ورواه فُلان. وأكثر ما في البُخَاري من ذلك مَوْصُول في موضع آخر من كِتَابه، وإنَّما أوردهُ معلقًا اختصارًا، ومُجَانبة للتكرَارِ، والَّذي لم يُوصله في موضع آخر، مئة وسُتون حديثًا، وصلها شيخ الإسْلام في تأليف لَطِيف سمَّاه «التَّوفيق» وله في جميع التعليق والمُتَابعات والموقوفات كتاب جليل بالأسانيد سمَّاه «تغليق التعليق» واختصرهُ بلا أسانيد في آخر سمَّاه «التَّشْويق إلى وصل المُهم من التَّعليق». فمَا كان منه بصيغة الجَزْم، كقال، وفعل، وأمر، وروى، وذكر فُلان، فهو حكم بصحته عن المضاف إليه لأنَّه لا يستجيز أن يجزم بذلك عنه، إلاَّ وقد صحَّ عنده عنه، لكن لا يُحكم بصحة الحديث مُطْلقًا، بل يتوقف على النَّظر فيمن أبرزَ من رجاله، وذلك أقْسَام: أحدها: ما يلتحق بِشَرطهِ، والسَّبب في عدم إيصَاله، إمَّا الاستغناء بغيره عنه مع إفَادة الإشَارة إليه، وعدم إهْمَاله بإيراده مُعَلَّقا اختصارًا، وإمَّا كونه لم يسمعه من شيخه، أو سمعهُ مُذَاكرة، أو شكَّ في سَمَاعه، فما رأى أنَّه يَسُوقه مَسَاق الأصُول، ومن أمثلة ذلك قوله في الوكالة: قال عُثمان بن الهيثم: حدَّثنا عون، حدثنا محمَّد بن سيرين، عن أبي هُريرة قال: وكَّلني رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بحفْظِ بِزَكاةِ رَمَضَان... الحديث، وأورده في فضائل القرآن، وذكر إبليس، ولم يقل في موضع منها: حدَّثنا عثمان، فالظَّاهر عدم سَمَاعه له منه. قال شيخ الإسْلام: وقد استعمل هذه الصِّيغة فيما لم يَسْمعهُ من مشايخه في عِدَّة أحاديث، فيُوردهَا عنهم بصيغة: قال فُلان، ثمَّ يُوردها في موضع آخر بواسطة بينهُ وبينهم، كمَا قال في «التاريخ»: قال إبراهيم بن موسى: حدَّثنا هشام بن يوسف، فذكر حديثًا، ثمَّ يقول: حدَّثوني بهذا عن إبراهيم. قال: ولكن ليسَ ذلكَ مُطردا في كلِّ ما أورده بهذه الصِّيغة، لكن مع هذا الاحتمال، لا يُحمل حمل ما أورده بهذه الصِّيغة على أنَّه سَمعهُ من شُيوخه. وبهذا القول، يندفع اعتراض العِرَاقي على ابن الصَّلاح في تمثيله بقوله: قال عفَّان، وقال القعنبي، كونهما من شُيوخه، وأنَّ الرِّواية عنهم، ولو بصيغة لا تصرح بالسَّماع محمولة على الاتِّصال، كما سيأتي في فروع عقب المُعضل. ثمَّ قولنا في هذا التَّقسيم: ما يَلْتحق بشرطه، ولم يَقُل أنَّه على شرطه، لأنَّهُ وإن صحَّ، فليسَ من نمط الصَّحيح المُسْند فيه، نبَّه عليه ابن كثير. القِسْم الثَّاني: ما لا يلتحق بِشَرْطه ولكنَّه صحيحٌ على شرطِ غيره، كقوله في الطَّهارة: وقالت عائشة كانَ النَّبي صلى الله عليه وسلم يَذْكُر الله على كلِّ أحيانه، أخرجهُ مسلم في «صحيحه». الثَّالث: ما هو حسن صالح للحُجَّة، كقوله فيه: وقال بَهْز بن حكيم، عن أبيه عن جَدِّه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «الله أحقُّ أن يُسْتَحيى منهُ». وهو حديث حسن مشهور، أخرجه أصحاب السُّنن. الرَّابع: ما هو ضعيف، لا من جهة قدح في رجاله، بل من جهة انقطاع يسير في إسناده. قال الإسْمَاعيلي: قد يصنع البُخَاري ذلك، إمَّا لأنَّه سمعهُ من ذلك الشَّيخ بواسطة من يثق به عنه، وهو معروفٌ مشهور عن ذلك الشَّيخ، أو لأنَّه سمعهُ مِمَّن ليسَ من شرط الكِتَاب، فنبَّه على ذلك الحديث بتسمية من حدَّث به، لا على التحديث به عنه، كقوله في الزَّكاة: وقال طاووس: قال مُعاذ بن جبل لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب... الحديث، فإسْنَاده إلى طاووس صحيح، إلاَّ أن طاووسًا لم يسمع من معاذ. وأمَّا ما اعترض به بعض المتأخرين من نقض هذا الحُكم، بكونه جزم في معلق وليسَ بصحيح، وذلكَ قولهُ في التَّوحيد: وقال الماجشُون، عن عبد الله بن الفضل، عن أبي سَلَمة، عن أبي هُرَيرة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُفَاضُلوا بين الأنبياء...» الحديث، فإنَّ أبا مَسْعود الدِّمشقي جزمَ بأنَّ هذا ليسَ بصحيحٍ، لأنَّ عبد الله بن الفضل، إنَّما رَوَاهُ عن الأعرج عن أبي هُرَيْرة، لا عن أبي سلمة، وقوَّى ذلك بأنَّه أخرجهُ في موضع آخر، كذلك فهو اعتراض مردُود، ولا ينقض القَاعدة، ولا مانع من أن يَكُون لعبد الله بن الفَضْل شَيْخان، وكذلك أوردهُ عن أبي سَلَمة الطَّيالسي في «مسنده» فبَطلَ ما ادَّعاهُ. ومَا ليسَ فيه جَزْمٌ، كَيُروى، ويُذْكر، ويُحْكَى، ويُقَال، ورُوي، وذُكِرَ، وحُكي عن فُلان كذا، فليسَ فيه حُكمٌ بِصَحَّته عن المُضَاف إليه. وما ليسَ فيه جَزْمٌ، كيُروى، ويُذكر، ويُحْكى، ويُقَال، ورُوي، وحُكي عن فُلان كذا قال ابن الصَّلاح: أو في البَاب عن النَّبي صلى الله عليه وسلم فليسَ فيه حكم بصحته عن المُضَاف إليه. قال ابن الصَّلاح: لأنَّ مثل هذه العِبَارات تُستعمل في الحديث الضَّعيف أيضًا، فأشَار بقوله أيضًا إلى أنَّه رُبَّما يُورد ذلك فيما هو صحيح، إمَّا لكونه رواه بالمعنى، كقوله في الطب: ويُذكر عن ابن عبَّاس عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في الرقي بفاتحة الكِتَاب، فإنَّه أسندهُ في موضع آخر بلفظ: أنَّ نفرا من الصَّحابة مّرُّوا بحي فيه لديغ... فذكر الحديث في رُقيتهم للرَّجُل بفاتحة الكتاب، وفيه: «إنَّ أحقَّ ما أخَذْتُم عليهِ أجْرًا كِتَابُ الله». أوْ ليس على شَرْطهِ، كقولهِ في الصَّلاة: ويُذكر عن عبد الله بن السَّائب قال: قَرَأ النَّبي صلى الله عليه وسلم المُؤمنون في صلاةِ الصُّبح، حتى إذا جَاء ذكر مُوسى وهارون أخذتهُ سعلة فركع، وهو صحيح أخرجه مُسلم، إلاَّ أنَّ البُخَاري لم يُخرِّج لبعض رُواته. أوْ لكونهِ ضَمَّ إليه ما لم يصح، فأتَى بصيغة تُستعمل فيهما، كقوله في الطَّلاق، ويُذكر عن علي بن أبي طالب وابن المُسيب، وذكر نحوا من ثلاثة وعشرين تابعيًا. وقد يُورده أيضًا في الحسن، كقوله في البُيوع: ويُذكر عن عثمان بن عفَّان: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال له: «إذَا بِعتَ فَكِلْ، وإذَا ابتعتَ فاكْتَل». هذا الحديث رواه الدَّارقُطْني من طريق عُبيد الله بن المغيرة- وهو صدوق- عن مُنقذ مولى عُثمان، وقد وثِّق، عن عُثمان، وتابعه سعيد بن المُسيب، ومن طريقه أخرجه أحمد في «المسند» إلاَّ أنَّ في إسْنَاده ابن لهيعة، ورواه ابن أبي شيبة في «مُصنَّفه» من حديث عَطَاء عن عُثمان، وفيه انقطاع، والحديث حسن لما عضده من ذلك. ومن أمثلة ما أورده من ذلك وهو ضعيف، قوله في الوَصَايا: ويُذكر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أنَّه قَضَى بالدَّين قبل الوَصِية، وقد رواه التِّرمذي موصُولاً من طريق الحارث عن علي، والحارث ضعيف. وقوله في الصَّلاة: ويُذكر عن أبي هُريرة رفعهُ: «لا يَتَطوَّع الإمام في مَكَانهِ». وقال عُقبة: ولم يصح. وهذه عادتهُ في ضعيف لا عاضد له، من موافقة إجماع أو نحوه، على أنَّه فيه قليل جدًّا، والحديث أخرجه أبو داود من طريق اللَّيث بن أبي سُليم، عن الحجَّاج بن عُبيد، عن إبراهيم بن إسْمَاعيل، عن أبي هُريرة، وليث ضعيف، وإبراهيم لا يُعرف، وقد اختلف عليه فيه. وليسَ بِوَاهٍ لإدْخَالهِ في الكِتَاب المَوسُوم بالصَّحيح. و مَا أوردهُ البُخَاري في الصَّحيح مِمَّا عبَّر عنهُ بصيغة التَّمريض، وقلنا لا يحكم بصحته ليسَ بواهٍ أي: ساقط جدًّا لإدخاله إياه في الكتاب المَوسُوم بالصحيح وعِبَارة ابن الصَّلاح: ومع ذلك فإيراده له في أثناء الصَّحيح مُشعرٌ بصحة أصلهِ، إشعارًا يُؤنس به، ويُركن إليهِ. قلتُ: ولهذَا رددتُ على ابن الجَوْزي حيث أورد في «الموضُوعات» حديث ابن عبَّاس مرفوعًا: «إذَا أُتي أحدكُم بِهَديةٍ، فجُلسَاؤه شُركاؤه فيها». فإنَّه أورده من طريقين عنه، ومن طريق عن عائشة، ولم يُصب، فإنَّ البُخَاري أوردهُ في «الصَّحيح» فقال: ويُذكر عن ابن عبَّاس، وله شاهد آخر من حديث الحسن بن علي، رَوَيناهُ في «فوائد أبي بكر الشَّافعي» وقد بينتُ ذلك في «مختصر الموضوعات» ثمَّ في كتابي «القول الحسن في الذَّب عن السُّنن».
فائدة: قال ابن الصَّلاح: إذا تقرَّر حُكم التعاليق المَذْكورة، فقول البُخَاري: ما أدخلتُ في كِتَابي إلاَّ ما صحَّ، وقول الحافظ أبي نصر السِّجْزي: أجمعَ الفُقهاء وغيرهم أنَّ رَجُلا لو حلف بالطَّلاق: أنَّ جميع البُخَاري صحيح، قاله رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لا شكَّ فيه، لم يحنث، محمولٌ على مقاصد الكتاب وموضوعه، ومُتون الأبواب المُسْندة، دُون التَّراجم ونحوها. وسيأتي في هذه المَسْألة مزيد كلام قريبًا، ويأتي تحرير الكلام في حقيقة التَّعليق، حيث ذكرهُ المُصنِّف عقب المُعضل إن شاء الله تعالى.
|